شعر العامية في كفر الشيخ
من منظور بيئي
بقلم : أمين مرسي
مفتتـــح
تشهد الساحة العربية المعاصرة – في مجال إبداع الشعر – تداخلات وتعارضات شتي ، حيث نري شعراء يمثلون كل مدارس الشعر الحديث :
الإحياء التقليدي ، والتجديد الرومانسي والواقعي المعاصر .
وأكثر من هذا نجد بعض الشعراء يشكلون قصيدة الشعر الحر بمضامين رومانسية ، وآخرين ينظمون قصيدة عمودية بمضامين واقعية معاصرة . وذلك كله يعكس بالضرورة – سمات خاصة لبنية المجتمع العربي ، وبالتالي للقيم الفكرية والجمالية التي تؤثر في نتاجه الثقافي ، ولهذا لم يكن من الغريب أن يمثل الشعر – فن العربية الأول – صدي واسعا لكل تلك التعارضات الحادة ، وبتجاوز المدارس الأدبية فإن ذلك لا يجعلنا نسلم بأن كل هذه المدارس قادرة علي أن تعكس نبض الواقع وتصور مهام المرحلة . إن في الرؤية الواقعية المعاصرة – وحدها – هي القادرة علي التعبير عن قضايا المجتمع ، وأزمات الإنسان ، سواء تشكلت هذه الرؤية في قالب عمودي قديم ، أن أنموذج حر جديد ، لأن القضية الحقيقية في أدبنا المعاصر ، قضية شعر ، لا شكل ، ونحن مع كل شعر يمتلك أدوات الفن ، ويستشرف آمال الإنسان العربية في الحرية والوحدة ، والعدالة ، والتقدم . وإثراء العقل ، والوجدان ، والروح بما يحقق إنسانية الإنسان ، ويكشف له شيئا مما خفي ، ودق واستدق من أسرار الكون ، وألغاز النفس ن ومعضلات الوجود ، ولقد أصبح شعر العامية المصرية اليوم حقيقة أدبية تعلو علي كل تجاهل ، وهذا الشعر لا يصنعه اليوم أولئك الذين تلمع صورهم وتجلجل أصواتهم علي شاشات التلفاز ، وميكروفونات الإذاعة ، وإنما تصنعه كوكبة من الشعراء دائمي التطور ، رفيعي الموهبة .
ثمـــار الشعــــر
وعلي السطور القديمة أقدم ثمارا مقتطفة من شجرة الشعر العامي في كفر الشيخ ، من خلال قراءة تحاول الاقتراب من ضفاف روح العامية ، والارتشاف من مياه الشعر العذبة لعدد من المبدعين ، وعملا بمقولة : ( دع كل الزهور تتفتح ) تتسع هذه القراءة لأصوات الواعدين إلي جانب الراسخين في الإبداع أصحاب القدرة الخلاقة علي إنشاء الفكرة ، والقدرة الجبارة علي تنفيذها ، ونفسح المجال لكل وردة تمد رأسها للندي لكي يكتمل تفتحها . ومن النصوص الشعرية التي تشئ بفكر واع وخيال يكشف النقاب عن فن جميل ، يأتي ديوان الشاعرة : ( عزيزة الشراكي ) فرط الرمان i الصادر عن مديرية ثقافة كفر الشيخ عام 2002 . ففي قصيدة بعنوان : ( بنتشابه ) تهتف : ( جذور الماضي والأحلام / بتشبه طفل متحني / بلون أمه / وهيه سأجده بتضمه ما بين نني / وبين دارعين بيتقابلوا علي ضهره ) هكذا تطلق الشاعرة سراح مشاعرها ، وتشعل سراج أفكارها ، دون أن يعلو فيها مد الأفكار المجردة ، أو يخفت صوت الواقع البيئي الذي تعيشه .
مـــن قامـــوس الشاعـــرة
كلمة ( الحلم ) من قاموس الشاعرة ، ومن معانيها في الفصحى : رؤية الشئ في المنام ونطالع كلمة الحلم ( والاقينا في حلم بفرحة يرمينا في بكره الجاي ) ، ( تحلم تضمه / لحظة ميلاده لحضنها ) ، ( وبتقتل جوا قلوبنا الحلم ) ، ( وجميلة تحن / للحلم الوردي / لطعم اللحن ) ، ( وبتحلم / والحلم جميل مليان إحساس ) ( عاش / ينشد الحلم في قلوبنا ) ( واتمنيناه إنه يحقق حلمنا ، والحلم ضاع مواله منا / وسط الألم / والحلم تاه جوا قلوبنا / ويا الندم ) ( رغم كل الحزن فينا راح / هنحلم ) و ( وهنحلم بينا علي المرسي / بنلم بقايا الماضي المتبعثر / علشان يرسي ) ، قصيدة بعنوان : باحلم كتير ومطلعها : ( كتير ... كتير باحلم أطير ) و ( وباشوف في الحلم / نظرات لعيون أحلي صبية ) و ( كل ما شوف الحلم الساكن جوا عيونك / بالمح صورتي ) ويأتي الحلم هنا بمعني الأمل ، ويتكرر في نفس الصفحة ( باحلم ألم ضفيرة تلم ولأدك جوا ضفيرتي ) وتتكرر كلمة جرح وجروح في قصائد الديوان ، وقصائد الديوان تتوقف عند القيم الإنسانية لتنفض عنها تراب الحاجة وصدأ الأيام ، والشاعرة يشغلها ( في إبداعها ) الإنسان في أحلامه وآماله ومشاعره الدافئة ، وتري الخير في يحيي وموسي ، وطه ، وعيسي ، وتتوحد معهم وتأنس لصوت الشيخ ( رفعت ) والست ( أم كلثوم ) ، وزرياب ، وإبراهيم الوصلي ، وزرياب المقصود هو المتوفى عام 852 ، واسمه : أبو الحسن علي بن نافع مولي المهدي ، كان أسود اللون ، لقب بزرياب لسواد لونه ، وفصاحة لسانه ، وتشبيها له بطائر مغرد اسمه ( الزرياب ) ، و أخذ الغناء في أول أمره علي ( إبراهيم الوصلي ) ، ثم علي ابنه إسحق ولما ظهر صيته ، وخشي إسحق تفوقه أبعده عن بغداد ، فرحل إلي المغرب ، وجاز البحر إلي الأندلس ، وهو ركن من أركان الغناء العربي ، علم تلاميذه الإيقاع لضبط حركات اللحن ، ثم الغناء علي الإيقاع دون ترسل ، ثم الغناء بإيقاع وترجيع تقول شاعرتنا : ( أنده علي كل السنين / وأنده علي زرياب وقول له : مليون قصيدة تضمنا / قول لإبراهيم الموصلي دنانير ماهيش جارية بتعشقها العنادل ، والبلابل والرجال .........) ثم تذكر هارون الرشيد وحبه لدنانير : ( كان حبها بيداوي بيه كل الآهات ) وتستدعي شاعرتنا التاريخ والغناء العربي ، فقد كانت ( دنانير ) جارية كوفية ، حققت شهرة في عالم الغناء بعد أن تتلمذت علي إبراهيم الموصلي ، واشتراها الوزير يحيي بن خالد البر مكي ، وكان هارون الرشيد يزوره في بيته ليستمع إليها وهي تشدو ( هذي " دنانير " تنسي وأذكرها / وكيف تنسي محبا ليس ينساها ؟ / أعوذ بالله من هجران جارية / أصبحت في حبها أهذي بذكراها ) . وبعد نكبة البرامكة رفضت دنانير الغناء في قصر الرشيد ، ثم غنت وهي تبكي : لما رأيت الديار قد درست / أيقنت أن النعيم لم يعد .
فغضب الرشيد وأخرجها من قصره ii وقد جسدت السينما قصة حياة ( دنانير ) في فيلم يحمل اسمها ، قامت بدورها فيه كوكب الشرق أم كلثوم . وشاعرتنا توظف رموزها الشعرية الفياضة بالغنائية برهافة الحس ، وبراعة الصوغ ، تضغطها في كلمات معدودة ، فتولد خيالات ممدودة ، وتخلط بين ظلال المعاني المتقاربة ، بل تتبع إيحاءاتها الشعورية ، بحس بالغ الرهافة وتواصل رسالتها لتقدم ما يروق ويعجب ، ويدهش .
صــــور وأخيلــــة
· والشاعر ( أسامة عبد الفتاح القباني ) يستخدم لهجة الحياة العادية في بناء قصائده ، وما يدور في قوالب مكررة من الصور والأخيلة وأنماط التعبير المعادة . ففي قصيدة ( شبكة الحرية ) يقول : ( صياد وطالبني / وناوي يحرقني / وحبيبي ليه غايب عني ؟ / طال بعده / فراقه ألمني / قلت يا صياد داويني / وقول للروح ياروحي / كفاية نوح / وهات لي الكأس يرويني ) .
وفي غراميات غزال يقول : ( حسنك فتان / ومالك أمان / يا للي في قلبي عايش بزمان / قدري وعمري / أملي المشتاق / أحقق أحلام شوقي وسهري / ياللي في قلبي قمري الفرحان .... ) وتجاربه كما نسمع ونري تشوبها بعض الهنات التي تكون في البدايات ، وهي تجارب تحتاج إلي الانصهار في بوتقة الابتكار ، حتى لا يستعجم المسلك لدي المتلقين ، ومن ناقلة القول الإشارة إلي أن الوزن لا يحجم التجربة الشعرية ، ولكن من المستحسن أن يكون الوزن آلية للتوظيف ، بحيث يتناسب مع أطروحات الشاعر المعرفية ، مع القدرة علي تشكيل مفرداته الخاصة . وفي قصيدة : ( فلسطين ) يقول : قاعدين وكفوفنا علي خدودنا / نستني صلاح الدين / والخوف مالينا حسرة وأنين / يالله نعلي راية العزة ويا الدين / ونعيش أمجادنا / نعيد حطين )
وهنا يحاول الشاعر اختيار الكلمة المؤثرة لكن بديهته لا تمده بالطريف في اللفظ والمعني ن برغم دلالة ( صلاح الدين الأيوبي ) علي المجد الأصيل ، والشرف الأثيل ، وبرغم دلالة القصيدة علي اهتمام الشاعر بقضايا ، وعذابات أمته . وفي ( لقاء ) : نطالع نصا غنائيا يسعي غلي تنظيم الانفعالات ، وتقريب المسافات في نفس القارئ يقول شاعرنا : ( لو نتقابل بكره يا روحي / لو نتقابل تشفي جروحي / فجري يشقشق طيري يزقزق ) . ثم يعود الشاعر إلي سيرته الأولي في نص بعنوان : ( أهل المناظرات ) حيث يقول : ( بلابل تغنت / في المناظرة تجلت / بأسلوب مقنع تحلت / يعزفون الأنغام كلمات / يقنعون السامع بفنون لها علامات ...... ) والشاعر بحاجة لاقتناص التجارب الشعرية في صورها الخالصة ن ليعمق الوعي فينا ، ويرقي بالواقع درجات دون أن يقصر في أدائه وتصويره ، فقضية العامية لم تحسم برأي يدلي به أنصار الفصحى ، أو برأي يقطع به أنصار العامية ، ولكن الذي حسمها هو الواقع الأدبي نفسه ، الذي انطلق فيه تيار الشعر المكتوب بالعامية ليقدم ثماراً طيبة ، ولا يمكن أن نتجاهلها ، فهي شعر صادق بأي المقاييس ، وهي مكتوبة باللغة / اللهجة الحية التي يتكلمها الناس ، ويفكرون بها ، وهو ينبع من الواقع ، ويصب فيه ، ويعمق إحساسنا به ، ووعينا بروحه وتفاصيله iiii .
· والشاعر ( صبحي محمد علي سعيد ) في شعره حيوية ، وطزاجة ، ولماحية ، يحلق في أفق شعري يعمق الإحساس بنصوصه ويحاول استشراف أفق جديد ، ويصطنع في قصائد الديوان شكل ( الإبجرامة ) وهي قصيدة قصيرة ، تتميز علي وجه الخصوص بتركيز العبارة ، وإيجازها ، وكثافة المعني فيها ، فضلا عن اشتمالها علي مفارقة من مفارقات الحياة ، ومن ذلك قوله في نص بعنوان ( تاه الحلم ) : ( مهموم الحلم في قلب البنت وهيه بتحبي علي السجاده / لاجل تنقي النقط السوده و بقع الحبر الأحمر منها / كبرت هيه وتاه الحلم ما بين البقع اللي في فستانها ) .
وفي نص بعنوان ( باموت ) يقول : ( أنا فيك باموت / والموت سكوت / ولحد امتي هاتني أموت ؟ / الناس بتتنفس تعيش / وأنا كل ما تنفس باموت / فتحت عيني لقيتك انته / غمضت عيني لقيتك انته / حلفت أعيش جواك وأموت .
إلــي النهـــر الوطـــن
· والشاعر ( السعيد قنديل ) في ديوانه : ( إلي النهر الوطن ) يطل علينا بوجهه كشاعر من الوجوه المضيئة التي لا تكتب الإ عن صدق واقتناع ، وأطوال القصائد عنده تتراوح ما بين شديد القصر ( إبجرامة ) تدور حول صورة واحدة مركزية حافلة بالإيحاءات علي إيجارها ، والطويل الذي يستخدم تراكم الصور في صنع أبنية انطباعية . ومثال ( الإبجرامة ) نص بعنوان : ( أمل ) يقول فيه : ( لا بد يوم فيه الغموم تتزاح ، / ولا بد يوم كل الجروح ترتاح ، ولا بد للحلم اللي ضاع يرجع ، ولا بد للفارس حصان وبراح ) ، ويقال لهذه الأبيات ( رباعية ) أيضا ً ، والشعر فيها يتميز بالفطنة ، والحيوية ، والبساطة ، مع مسحة من الحزن ، والتحرر ، والانطلاق . وفي نص أخر بعنوان : ( دهشة ) يقول : ( من فين طلوع الأمل ؟ / ولفين الأماني تغيب ؟ / ومنين بيجي الألم ؟ / وازاي الجروح بتطيب ؟ / علمني طول السفر / ما أبكي علي المكاتيب ) . وشاعرنا ههنا قادر علي مخاطبة الوجدان دون حجب أو أستار ، والأبيات غنية ، تزخر بالصور ، التي تقوم علي الدهشة الشاعرية ، وفي القصائد الطويلة بشجن القصائد بالظلال ، ويقيم الوشائج بين القاصي والداني ، يجسد الوجدان الجمعي ، ويسلط عدسة الوعي علي الداخل ، ويحكم قبضته علي كل حرف ، وكل إيقاع ، ويقيم جدل مثمرا بين العراقة والتفتح وداخل الذات وخارجها ، وهذا النوع من الثنائية الجدلية يعطي شعره نوعا من الحيوية ، والألق . والنيل هو المفتاح الذي علمه كيف يدلف من أبواب قلبه ، وهو الجو الذي يصنع الألفة عنده ، ويدعم مزاجه الفني . فقد سكن النيل وجدانه . وفي قصيدة بعنوان : ( حدد مداك ) راح يهتف : ( لساك وطن / رغم انكسار النفس في ( النيل ) والرباط / لساك وطن / رغم الجراح المزمنة / رغم اختلاف الأزمنة / رغم البلاهه والانحطاط )
سيــــد المواويــــل
وفي شعر مرسل يمضي الشاعر علي رسله بدون تعجل إلي أن يقول : ( لموا الجراح بالكيل ، واتعصبوا بالمدامع ، واتجمعم صفين / ع الشط والنهر سامع ) ويدخل النيل في نسيج القصيدة ، ويسهم في صياغتها الفنية ، ويبوح شاعرنا بأوجاعه، ويصرخ في أسره: (دي بلاه باعةها الـ .........) ويبقى النيل شاهدا على هذه العصور وما بها من قصور، ويشكل النيل جوانب مهمة في حساسية الشاعر، ويدخل في تشكيل فضاء النص الشعري بصريا، ويطير الشاعر بأجنحة الخيال فوق مياه النيل، ويجالد قوى الشر والخيانة، ويمضي الزمن، ينسدل فيه ستار، ويرتفع فيه ستار، فيصدر الشاعر أوامره: (وصوري النيل في دمي/ وفروعه جوه الخلايا) وهكذا تدور التجربة الشعرية حول الشعور بالعزة، رغم مشاعر الحزن التي تولدت في النفس، لكنه حزن لا يصل إلى حد الإحباط واليأس، والعزوف عن الحياة، ثم ينادي الشاعر النيل: (يا نيل/ يا سيد المواويل/ ياللي الجوارح بتحيا/ لما تضمك يا نيل) لقد كان الشاعر يقظا لأسلوب النداء، فاستخدمه استخداما جيدا ويكمل: (يا نيل يا بو النخل وارف/ ع الشط شاهد وعارف/ من فين لفين امتدادك/ يا نيل في شريان ولادك/ في الدم ساكن وعايش/ في القلب والروح يا نيل/ يا نيل بلدنا يا نيل/ أنا الفتى المستحيل/ وأنت الجواد المكابر/ مليون سنة يا نيل/ وأنت على الكر قادر) ص9. وتطالعنا هنا النخلة الرمز المعبر عن العطاء الطبيعة، وهي تقف شامخة، وتوحي بالحياة كالنيل الذي يرفدها بمائه، وتبسط الظل في وسط يوحي بالموت والانهيار، وتضرب بجذورها في أعماق التربة كأبناء مصر، وترتفع بفروعها إلى السماء، وكأنها تبحث عن المطلق. وهي الخصوبة مواجهة الجدب، وهي الشاهد على ما يحدث في العصر، وهي دليل الاحساس الحاد بالزمن، ونضج النفس، والأسى على الواقع، والتناغم مع النيل والمواويل. وشاعرنا هنا لا يمالئ الذوق السقيم، بلع يسمو به في معراج العشق وينزع عن الأشياء رداء الألفة، من خلال أبنية شعرية يبدعها شاعرنا مكصورا فيها فجيعة الإنسان. ويعود الشاعر ليقول: (وصوري النيل في دمي) فيريق على وجه الصباح ضياءه، ثم يقتبس الحكمة حتى يحقق النمو والاودهار، والنضج والاختمار: (ومعلماني الأم كيف الرد/ وطاغور رسم لي معادلتين في الهند/ مهر الزمن لا يمتطئ بالطوع/ والشمس ما تنميش نبات مخلوع) ويدلنا النص على الطريق إلى الشاعر الهندي العظيم رابندارنات طاغور (1861 – 1941) لتميل نحوه القلوب، وتصرف إليه الوجوه، وليستدعي النص به إصغاء الأسماع.والأبيات التي مرت بنا فيها قوة في غير ضعف، وفيها اللين في غير عنف والتسلسل الفكري قائم على صفاء التعبير، وجودة اللفظ، والوضوح، وعدم الغموض والإبهام، كما أن شاعرنا يخلو شعره من الغلو والإفراط في التشاؤم، لهذا جاءت الأبيات (السطور) واضحة لا تحتاج إلى كد، وإعمال فكر، ولا يمكن لنا إغفال (البيئة) كرافد من روافد شعر الشاعر فضلا عن القراءة والاطلاع، والعكوف على دواوين الشعر يستعذب منها ما يألفه ذوقه، ويصقل موهبته، ويمده بالأفكار، والصور، والرؤى، والبعد النفسي، والثراء المعرفي، والعمق الفكري، والشعر الذي ينفخ فينا أنفاسا حارة من الحياة، ومن (طاغور) الشاعر الذي يفئ الألق إليه، يعود الشاعر إلى النيل مرة أخرى، فيقول: (طول عمري بازرع واعاني/ واطلب من النيل أماني) وهنا يتخذ المكان صورة إنسانية بوصفه المجال الذي تحيا فيه الذات، وفيه ترى نفسها منعكسة في علاقات ترتيب المكان، ثم تطل علينا (إيزيس) أشهر معبودات الفراعنة، التي كان وطنها الأصيل في الدلتا: (إيزيس حصان الريح) ويلتقي التاريخ الفرعوني التاريخ العربي، يستخرج الشاعر منهما لأصدافا ولآلئ نادرة، لا توجد إلا في الأعماق: (لا كنت أنا "العبسي"/ ولا كنت "داحس"/ أنا صاحب الدرس المعاكس) ويجمع شاعرنا بين وهج الفن، وحرارة الشعر، ونبض الوعي، حيث تتكشف هذه الرئى بوضوح من خلال العبسي iv عنترة بن شداد المتوفي عام 600، وهو شاعر فارس، أظهر البطولة في حروب داحس والغبراء، وكان شجاعا جودا عفيفا تمثل فيه الخلق العربي البدوي واتخذه الأدب الشعبي مثالا للبطل العربي، وأدار حوله ملحمة من أجمل الملاحم العربية التي تحمل الإيحاء البليغ الذي يمس أعماقا غائرة من نفس المتلقي، وتتبع شاعرنا الحرب التي هاجت بين عبس وذبيان أربعين سنة، فتتحول الكلمات إلى نصال ويطفو على القلب هم السنين وتتخلق الأفكار من داخل النص تؤكد حضورها، وتشف عن كوامنها (إيزيس حداد النيل ومرماح المدى العربي) (إيزيس شراع النيل ومجذاف الفرات)، وتتسع الدائرة (وغصون زتون القدس والكوت، والساحات/ وولادها: بدر شاكر، ومظفر النواب، والحج منذر، وجاسر، وسلالة السياب، والشاعرة الجد نازك/ وحكاية العناب) وتأتي أسماء شعراء العراق، بل العلامات الريادية البارزة في خريطة الشعر العربي، نلج من خلالهم إلى بهم الشعر المضئ، الشايع، فهم أبعث على إثارة المشاعر، وأفعل في نفس السامع ومن الجدير بالذكر أن الفن لا ينقل حقائقنا بل يمتلكها معرفيا، وهذا التملك يجعل العام خاصا في الفكر والشعور، فالفن لا يقدم الواقع كما هو، وإنما يطرح وجهة نظره تجاه هذا الواقع من خلال تشكيل جمالي مخصوص، وكأنه يذيع علينا أسرارنا التي لم نسمع بها من قبل، ومن هنا كان اهتمام شاعرنا بمفرداته، زالطاقات الفنية التي تفجرها اللغة/ اللهجة بما لها من أبعاد تاريخية، وهي لغة/ لهجة مصورة مستطيعة بنفسها لا بغيرها، والزمكمن عند الشاعر كما نرى هو زمن تاريخي، يركز على أسماء بعينها لها طاقاتها الروحية داخل النفس الشاعرة ونفس المتلقي.
ويعود شاعرنا إلى مناجاة النخيل ويختم قصيدته (حدد مدا) بقوله: (النهر من مطلعه/ بيجري في دمنا/ والصبر منه إليك) وفي قصيدة: (طير يمامك يا وطن) يهتف الشاعر: (واقرا على النيل السلام) إلى أن يقول (واضحك بعرض الكون على النيل والسنين/ وحكاية البلد الأمين ويستدعي الحسين بن علي (ت 61هـ - 680م) كما يستدعي قرية حطين الكائنة بفلسطين غرب بحيرة طبرية حيث هزمت جيوش المسلمين عندها الصليبيين في معركة خالدة (383هـ - 1187) بقيادة صلاح الدين الأيوبي، واستعاد المسلمون بعدها بيت المقدس ولهذا يقول شاعر (إن النهار راجع ولو طال الزمن) وتستمر طاقات التفجر الوجداني، نشم عبق التاريخ، وتمتزج الصور الشعرية، وتتداخل، وتتصادم، ويعود الشاعر في قصيدة (الجرح لم يندمل) إلى النخيل (الأصالة) والنيل (الحياة) (فينك يا نخل تعافر في الشقا وتعيش؟/ فينك يا نيل ياللي شارد في الزمن ما تجيش؟) ويتحول الشاعر إلى صياد يقنص لآلئ القصيد .. يهتف للزمن يناديه ويناجيه، ويذكر بياسين وبهية ويقول (علموا النبتات في قلب الطين تداري/ حبها للنيل وشمس المغربية/ يا بهبيه/ لسه طعم الليل في ثغر اليوم مرار) ... إلى أن يقول: (يا ياسين قولي باب الحلم فين؟) ويتردد النداء لياسين وبهيه لنتذكر الموال القصصي عن ياسين وبهيه وما يوحي به من ظلال مأساوية في زمن سابق على ثورة يوليو 1952. عودة إلى النيل والنخيل لكن التكرار هنا لا يهدم التوازن الهندسي للقصيدة، فهو تكرار فطن، ويصدر الأمر للنيل (وامتثل واخضع يا نيل/ واقرا حدوتة قابيل)، (كتبم حروف النيل على صدر الجبان/ يا ديدبان/ النار في قلب الطين طوفان (وانده بعزمك في روابي النيل/ تلقى الأيادي السمر ما تنعد).
مواجهــــــة
في قصيدة بعنوان: "يا بكره" يفيض النيل في القصيدة، فهو الرمز المعبر عن عطاء الطبيعة، ولهذا يشم الشاعهر عبير الغد الفواح ويقول: (وعشتك نسمة هفهافه بصدر النيل.) ويقدم شاعرنا أقصوصة شعرية بعنوان: (إلى النهر الوطن) وهي الأقصوصة التي يحمل ديوان الشاعر اسمها، وأصالة التجربة بما فيها من طعم المعاناة، ودفقة الحياة تدعونا إلى دراسة مستقلة نخصصها لهذه الأقصوصة. وفي نواح النوارس نقرأ: (يا هل ترى يا نيل هنتلاقى؟/ ولا الليالي السود فراقه)، ثم يخاطب النيل بقوله: (يا عم النيل) والقصيدة في رثاء صديق الشاعر الراحل (عبد الدايم الشاذلي)، وفي قصيدة (عيدوا الزمان) يهتف شاعرنا: (عيدوا التراب والأرض والنيل والسنين) وفي قصيدة (انتفض) يقول الشاعر (واتركوا لي النيل/ دا النيل فوات/ توأمين وبينا كتير حاجات) وفي قصيدة (انتفض) يذكر الصهاينة (م النيل للفرات) و ........ (ما بقاش في نيلك حد يتحدى السكوت والقوت) وفي قصيدة بعنوان: (أغنية العروسة) يبتعد الشاعهر عن ألاعيب أشباه الشعراء الشكلية الفارغة فيقول: (قولوا للعروسة الخير طرح في بلدنا/ والنيل بقاله ألف مدنه ومدنه) وشاعرنا (السعيد قنديل) على وعي تام بعمله الشعري، وله حساسية مرهفة في وضع الكلمات المناسبة في المكان المناسب، والإيقاع في شعره يوحي بحركة فكرية، ولقد سكن النيل ألفاظه وأصبح رمزا، وعاش مع موحياته وظلاله وتأثيراته. وشاعرنا دخل مع النيل في مواجهة إنسانية، اتسعت فيها الرقعة الفكرية، والوجدانية، والموسيقية، وأثار عن طريق النيل القضايا التي لا تلتبس بغيرها، فلها لونها المغاير. والمتأمل في شعر الشاعر (السعيد قنديل) يجد فيضا تلقائيا لمشاعر قوية مع ارتباط الألفاظ بالمعاني، واتزان الإيقاع الموسيقي، وطول النفس الشعري، والاعتماد على الوحدة الموضوعية. وللنيل حكايات عند شاعرنا، وعشق عند المبدعين من شعراء كفر الشيخ. ويبقى الشعر هو القبس الوهاج الذي يقتنصه الشاعر من بين النيران التي يضرمها الإلهام، ويبينها الفكر، وتصنعه الأحلام.
خلـــــــود
(طه هنداوي) له ديوان بعنوان (فضفضات النعناع)، يقع في حوالي 100 صفحة من القطع الصغيرة، ويضم عددا من القصائد بالترتيب التالي: وليه بطلتي تنسيني؟ - معقولة! – صغيرة – مش أنا – خلود – عندليبنا – مستحيل – الفاتحة – توحد – اكتشاف – بياع كلام – مش ليه – ارحلي – بكره – بحبك – محلاها ريحه النعناع – غريب أمرك – براءه – يوم الغضب – يا ملاكي – رسالة من الآخرة – نوبة رجوع – ليه أنا عاشق – هايله قوي – انسي – من فن الواو – القلب الحرير – فضفضه – حلم – مقاطع يوط صيفي – فراق – بورتريه – يا واخد قلبي – يا محزمين البردعة، وتنساب الأحاسيس من الشاعر كالجدول، ويثب كالطير من قصيدة لأخرى، تغرد روحه ثائرة، تنطق باللحن والشدو، ويوجه شاعرنا ركابه إلى العديد من الأغراض الشعرية التي تتحول إلى ظل لشعوره وتتردد في الديوان أصداء لحنه الحزين، الذي يبحث عن الحقائق المصلوبة بينه وبين عصره وعمره، ونشعر باختلاجات روحه وأحاسيسه، وتومض رؤى خياله وتشتعل الكلمات، وتنصهر الأشواق التي تجتاح ذاته، وتعربد في كيانه، وتوغل في أعماقه، وتنساب فؤاده، وتفجر أنهار حياته، ويحاول الخروج من تيه الوجود والصمت والقهر، يتمسك بالإباء والإصرار حتى لا يغيب الحب والعطر، ويهتف: (غريب أمرك/ مسافاتك تفرفتها/ وتحدف لي سكوت جمرك/ عيونك قوس قزح في سماك/ بتضحك بس إيه جواك؟/ عيون فصل الشتا عاشقاك/ تزوق للربيع عمرك/ غريب أمرك/ كلام أخضر بيتمشى/ ويتمايل على الشفه/ حروفه منبتة ف قلبي/ وكاشفه مهما يتخفى/ غريب أمرك/ على بابي يقف قلبك/ وإحساسك قوي غالبك/ تزقزق لي عصافيره/ وتشكيني لكراسك/ غريب أمرك/ دانا سري غطا سرك/ وليلي يحرسه قمرك/ ورمشي يكحله سهرك/ دا أمر الله ومش أمرك/ غريب أمرك/ غريب أمرك).
والقصيدة تدور حول مسائل فردية، وقد ظهر هذا النوع من الشعر (الشعر الدنيوي) في مرحلة مبكرة، ويسير جنبا إلى جنب مع الشعر الرسمي، ومع أدب الجماعة، وكانت التجارة هي التي أدخلت الذاتية في الأدب في بلاد أخرى، إذ أصبحت للتجربة الفردة، أهميتها بحيث استطاعت أن تقف جنبا إلى جنب مع تاريخ القبيلة وملاحم البطولة، والأغاني الدينية، وأناشيد الحرب. يقول (أرنست فيشر) في كتابه: (ضرورة الفن): إن سفر (نشيد الإنشاد) الذي ينسب في التوراة إلى الملك سليمان كان تعبيرا عن هذا العصر الجديد، وبرغم الذاتية الجارفة في القصيدة التي بين أيدينا نحس فيها بشئ ما ينطبق على الآخرين إذ تعبر عن تجربة مشتركة بين الكثيرين. ولقد عبر الشاعر عنها بحيث يمكن أن تقبل كتجربة إنسانية عامة، فالشاعر الذاتي يخضع للقيود الموضوعية للوزن والشكل والمضامين الفكرية السائدة في المجتمع v. ولقد استطاع (طه الهنداوي) أن يجعل قصيدة العامية إطارا لأفكاره ومشاعره وترك نفسه على سجيتها تنساب شعرا.
حلــــم جميـــل
لقد ترك الشعر على مجرى التاريخ بصمات لا تمحى، وخبرات لا تنضب. ولشعر العامية من الخصوصيات مما يجعله محختلفا عن شعر الفصحى، رغم أن هذه الخصوصيات لا تعدم ضرورة الإستفادة من تجارب السالفين، باعتبارها جزء من التاريخ العام، الذي يمثل الذاكرة المشتركة للإنسانية. والنص العامي له ذوقه الخاص وطبائعه الفنية، الكثير من النصوص العامية تفقد قيمتها الجمالية والفنية حين يتم الاكتفاء بقراءتها قراءة سريعة، لأن النص رسالة من القائل إلى مستمعيه، ولا تكون الرسالة مقبولة إلا إذا كانت مسموعة تسمعها أذن صاغية، وقلوب واعية، فالأذن هي الحاسة التي تقوم بالتأثير على بقية الحواس، وهي إن صلحت تحرك كل عوامل التأثير في الإنسان، وسبيل الأذن الصوت .. استمع معي إلى شاعرنا حين ينادي حلمه في قصيدة (حلم) (يا حلم جميل بقى ذكرى/ وكان بيحني كف الليل/ ومستني شروق بكره/ يا حلم جميل وكان أخضر/ وورده النادي بيفتح/ على خدود النسيم يطرح/ قصايد نور ويبدرها/ على ثغر الندى البنور/ ويغسل بيها قلب أبيض/ يحب وعمره ما يكره/ يا حلم جميل فضل سهران/ ووحده قايد الشمعة/ يلملم نورها بكفوفه وبيغني: Happy Birthday/ ترد الشمعة بدموعها/ يجمعها/ ويلضمها بخيط الوجد/ وراح يرسو على لوح القزاز أشواق/ ولما الشمس جاءت تجري/ نصب ليها الغراب الفخ/ كعبلها/ وقع نورها/ وتحته تاهت الذكرى/ يا حلم جميل بقى ذكرى) والعبارة بالإنكليزية مفحمة على النص ولا حاجة له بها رغم إشعاعها الدلالي الشعبي، وكثرة دورانها على الألسنة، ويبقى الحلم غائبا بعد أن سجل شاعرنا تفاصيل مشروعه الوجدانيومكابداته الروحية.
الشاعـــر الكونـــي
· والشاعر محمد صبحي علي نصر في قصيدة له بعنوان (شرخ) يقول: (وإيمانك يوم بمحمد أفضل خلق الله/ وسواه العالم كله يغور/ مسرور/ فرحان/ ضحكات البقر الدنمراكي اللي ف وشك ليل ونهار/ انهض من نومك/ فوق بيسيئوا السمعة سيد الخلق/ والحق الحق مطاطي الراس/ مش قادر/ اصرخ/ قوم/ ندد/ واشجب/ قول/ لأ/ متكتف جوه لسانك بوق/ والطوق بيحاوط كل حياتك). والشاعر يدعو للصراخ، والتنديد والشجب للدفاع عن النبي (ص)، والوقوف في وجه عمليات التعريض بالنبي، والإساءة إليه في الصحف الدنماركية من خلال الرسوم البذيئة التي نشرتها صحيفة (جيلاندس بوسطن) viJYLANDS POSTEN. وبقدر سلامة الإيقاع في القصيدة فالشاعر بحاجة إلى العناية بالصياغة الشعرية، وبناء القصيدة، والدقة في اختيار الألفاظ، وبناء الجمل لتحقيق شعرية متميزة فالشاعر الذي تريده هو ذلك الشاعر الذي يعمق رؤية الإنسان للوجود ويقدم لنا رؤيته الخضراء لعالم غض، ندى، لم يره إنسان من قبل. ولم يخطر على بال أحد من قبل. هو ذلك الكائن الصغير الذي يتلقى فيه العالم الأكبر، هو تلك الذرة الدقيقة التي تدور حولها ملايين الشموس والأقمار، وهو ذلك الشاعر الكوني الشمولي الذي أبدع في تصويره شاعر كفر الشيخ الفذ (صالح الشرنوبي vii) (1924 – 1951) وذلك في قوله: (شاعر الكون لا يفيد الكون، وإن ضمه تراب وماء/ ساحر النور والظلام، وكم يسمو فتفنى في نوره الظلماء؟/ هو قلب الحياة، يشدو إذا غنت، ويبكي إذا شجاها البكاء/ قلق كالحياة تقتلها الأغلال (م|) وهو المقيد العداي/5 ساكن، كالغناء، يخلق بالأحلام (م) ما لا يجري عليه القضاء/ يستلذ الآلام في نشوة الوحي (م) وفيها الدواء والأدواء/ شغلته عن الحياة معانيها (م) وأغراه بالدفين اطلاء) والشعراء هم الكهنة الذين يتلقون وحيا خفيا، وهم المرايا التي يعكس الظلال الماردة، التي يلقيها المستقبل على الحاضر، وهم الألفاظ التي تفصح عما لا نفقه، وهم الأبواق التي تدعو للمعركة، ولا تحس بما تلهبه في النفوس من حماس، وهم القوة التي تحرك الأشياء ولا يحركها شئ والشعراء هم شراع العالم الذين لم يعترف بهم الإنسان. والشاعر (محمد صبحي نصر) يضمن شعره ذكرياته، ومخاوفه، وآماله وفي قصيدة (غربة وتوحد) يقول: (لوني خلاص بقى لونك/ في العتمة تفرد مداك/ داخل تباريح اللزمن/ مجنون أنا/ وبقيت أنا مجنونك/ ما تقوم وتغزل مبتداك) وأخطاء الإيقاع ظاهرة، والشعر ليس إيقاعات وحسب، فهناك عناصر أخرى عديدة، تتلآذر في تشكيل النص الشعري ككتلة متوهجة، حية، أما الإيقاع وحده فلا يشكل النص أبدا، فألفية ابن مالك – وغيرها – موزونة – ومقفاه ولكنها ليست شعرا وشاعرنا (محمد صبحخي نصر) استطاع دخول دائرة الإبداع في الزجل، فتحت عنوان (صرخة) يقول: (نزل الندى برقته/ صبح على الغيطان، الشمس فارده بدفا/ إيدها بكل أمان/ والنسمة متزوقة/ بتلف ع العيدان/ فجأه كده تحولت/ كتلة من النيران/ أطفال وضوئها ارتفع/ عالي في كل أدان/ جرس الكنيسة ضرب/ انتبهوا الرهبان/ أهلي يا كل العرب/ حمونا من الغيلان). وتمضي بنا رحلة الشعر العامي حيث يختلف استخدام الصورة بين شاعر وآخر لأن لكل شاعر لونه من الأفكار والمشاعر والعواطف حسب تكوينه المفرد الذي لا يشترك فيه أحد غيره كالشأن في البصمات التي اكتشفت حديثا في تفردها المطلق عند كل إنسان، فلا تلتقي بصمة مع أخرى وهو سر كالك الوجود. والصورة عن النقاد القدامى هي الجيدة الصحيحة المعنى، القوية اللفظ، الواضحة، القائمة على الاستعارات، والتشبيهات المبدعة، وهي ما دخل الأذن بلا إذن وقلب السمع بصرا.
والصورة عند النقاد المعاصرين تعني أحد أمرين: أولهما: هو الذاكر الواعي لمدرك حسي سابق – كله، أو بعضه، في غياب المنبه الأصلي للحاسة المثارة. أي استرجاع منظر رآه الإنسان، أو صوت سمع بعد أن يبتعد عنه يزول أثره المباشر على الحواس، وقد يكون التذكر شاملا المنظر، أو الصوت أو قاصرا على جزء، أو أجزاء منه. وثانيهما: هو مفهومها في الفن الذي إما يخصصها فيعدها مرادفة للتعبير المجازي أو الاستعاري – أو أن يعممها ويتوسع في نطاق دلالتها فيعني بها التعبير عن تجربة حسية نقلت بطريق البصر: أو السمع أو الشم أو اللمس أو الذوق – أي أن بعض هذه الحواس أو كلها مجتمعة تدرك عناصر التجربة الخارجية، فينقلها الذهن إلى الشعر بطريقة من شأنها أن تثير في صدق حيوية الإحساس الأصلي، وفي ظل هذا المفهوم قد تكون الصورة الواحدة تسجيلا لإحساس مفرد.
والشاعر الذي لا يقدم إضافة جديدة لكل ما تقدم وتحقق، يظل هامشيا، والشاعر الذي لا يقاوم الواقع بتعقيداته، وضغوطه وتغريبه، سوف يقرأ الأشعار لنفسه، أو لشلة المقهى. والشاعر الذي يعلو نجمه ويرتفع صوته، هو الذي يجد في (لغاتنا) لغات مختلفة فعلا، ويطرح الواقع من خلال تجاربه بشكل جديد وليس من خلال أشكال ولغات مفتعلة ساعتها سوف نفرح به ونحمله على الأكتاف.
في قليـــن
والشاعر عبد البر صلاح عيسى عضو نادي أدب قلين يهتم بالصورة في شعره حيث يقول: (ازعل عشانك واصطلح بيكي/ واعبر بحورك واوصل الضفه/ لو حتى مني دمي يتصفى/ واعدي نهرك لو على الحافة/ وراجع لحضنك وادفن فيك). وفي (رسالة شهيد) يقول: (المسك يومها عمني/ وحمامه بيضه في الحرير بيلفني) وفي قصيدة ميلون سلام المهداه إلى الشاعر (عبد الرحمن الأبنودي) يقول: (ما تمد إيدك، وافرط العنقود/ يطرح جناين من شوق الولاد). وفي قصيدة بعنوان (أنا وأنت) يقول: (أنا وأنت بنحلم يوم نكون أحرار/ ونبني عش عصفوره لجوز أبرار/ ونسكن فيه ونتدارى مت الأشرار/ وكلمة حب تجمعنا أنا وأنت) وهكذا يريك الشاعر المتخيل في صورة المتحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه شاهد وذلك أسير على الألسن، وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر.
ولقد سعدت بصحبتي لشعراء العامية بكفر الشيخ، إذ عشت معهم أجتبي من شعرهم ما دل على سموقه، وأجتبي من ثمرهم ما استوى على سوقه، فالشمس من فوق أولئك لا تزال ساطعة الشعاع، ودائبة الارتفاع.